أجمع خبراء ومختصون في الاقتصاد والرقمنة على أن الجزائر حققت تقدمًا ملحوظا في مجال الرقمنة بفضل التوصيات المتكررة من رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في مختلف المجالس الوزارية، التي شددت على ضرورة إدماج الرقمنة في حياة المواطن اليومية لتسهيل جميع تعاملاته وتعزيز الشفافية وتحسين أداء المرافق العمومية.
وأكد المتدخلون أن هذا التوجه الإستراتيجي تجسد من خلال إنشاء هيئات جديدة مثل وزارة الرقمنة والإحصائيات والهيئة السامية للرقمنة، إلى جانب مشاريع الدفع الإلكتروني ورقمنة الخدمات الإدارية والتربوية. غير أن الطريق، بحسبهم، ما يزال طويلا بسبب التحديات المرتبطة بالبنية التحتية التقنية، والتأطير البشري، والإطار القانوني والتنظيمي الذي يحتاج إلى تطوير مستمر.
جاء ذلك في إطار فعاليات الملتقى العلمي الوطني الموسوم بـ«الرقمنة ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية: تحديات وفرص»، الذي احتضنته جامعة أحمد بن يحيى الونشريسي – تيسمسيلت يوم الثلاثاء 14 أكتوبر 2025، بتنظيم من كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، تحت إشراف عميد الكلية البروفسور سحنون جمال الدين، وبرئاسة الدكتور بودالي بلقاسم، وبمشاركة نخبة من الأساتذة والباحثين والخبراء الاقتصاديين من مختلف الجامعات الوطنية، إلى جانب حضور مميز للطلبة المهتمين بمجالات التحول الرقمي والاقتصاد المعرفي.
في كلمته الافتتاحية، أكد البروفسور سحنون جمال الدين أن هذا الملتقى العلمي يدخل ضمن إستراتيجية الجامعة لترسيخ ثقافة الرقمنة كخيار استراتيجي لتحقيق التنمية المستدامة في الجزائر، مشيرًا إلى أن الرقمنة أصبحت أداة محورية لتعزيز الحوكمة والشفافية ومكافحة البيروقراطية، وتحسين فعالية الأداء الاقتصادي. وأوضح أن الجامعة، من خلال تنظيم مثل هذه الفعاليات، تسعى إلى دعم البحث العلمي التطبيقي وربط المعرفة الأكاديمية بواقع الاقتصاد الوطني، في ظل التحولات التكنولوجية التي يشهدها العالم.
أما رئيس الملتقى، الدكتور بودالي بلقاسم، فقد أشار في كلمته إلى أن الهدف من هذا اللقاء العلمي هو فتح فضاء للحوار بين الباحثين وصناع القرار حول واقع الرقمنة في الجزائر وآفاقها المستقبلية، مؤكدًا أن الرقمنة تمثل اليوم ركيزة محورية لتحديث الاقتصاد وتعزيز تنافسيته في ظل الثورة الصناعية الرابعة، وأن الجزائر قطعت خطوات معتبرة في هذا المجال لكنها بحاجة إلى مزيد من التنسيق بين القطاعات لتحقيق تكامل حقيقي في منظومة الرقمنة الوطنية.
وعرفت الجلسات العلمية للملتقى مشاركة مجموعة من الأكاديميين والخبراء البارزين الذين تناولوا مختلف أبعاد الرقمنة الاقتصادية والإدارية. فقد قدّم البروفسور بوشيخي بوحفص من جامعة مستغانم مداخلة بعنوان «الرقمنة كأداة لتحفيز الابتكار والإنتاجية في الاقتصاد الوطني»، أوضح فيها أن الرقمنة تمثل أحد أهم محركات التحول الاقتصادي في العالم، وأن الجزائر تمتلك من المقومات ما يجعلها قادرة على دخول عصر الاقتصاد المعرفي إذا ما تم استثمارها بالشكل الصحيح. وشدد على أهمية تطوير البنية التحتية الرقمية وتوسيع التحول نحو الاقتصاد القائم على الكفاءة والتكنولوجيا، مشيرًا إلى أن الرقمنة ليست فقط وسيلة تقنية بل هي ثقافة جديدة في التسيير والإنتاج.
كما قدّم الدكتور سيساني ميدون مداخلة بعنوان «الرقمنة كمدخل لتحسين الأداء الاقتصادي الوطني»، تناول فيها أثر إدماج التكنولوجيا الحديثة في القطاعات الاقتصادية المختلفة، مؤكدًا أن الرقمنة تُسهم في ترشيد النفقات العامة، وتحسين نوعية الخدمات المقدمة للمواطن، وجذب الاستثمارات الأجنبية بفضل الشفافية والوضوح في المعاملات الاقتصادية والإدارية.
وتطرقت باقي المداخلات إلى عدة محاور متخصصة، من بينها دور الرقمنة في تحديث الإدارة المالية للدولة، وتطوير النظام البنكي عبر الدفع الإلكتروني والتطبيقات الذكية، والتحول نحو الاقتصاد الرقمي كرافعة لتحقيق التنمية المستدامة، إضافة إلى التجارب الدولية في مجال التحول الرقمي والدروس المستفادة للجزائر. وقد ساهمت هذه النقاشات في إثراء الحوار حول سبل تسريع الانتقال إلى مجتمع رقمي فعّال يواكب التطورات العالمية ويستجيب لتطلعات المواطن.
وفي ختام الملتقى، أجمع المشاركون على أن الجزائر حققت بالفعل تقدمًا ملموسًا في مجال الرقمنة بفضل التوجيهات الرئاسية العليا، غير أن المرحلة المقبلة تتطلب رؤية تكاملية تجمع بين الدولة، الجامعة، والمؤسسة الاقتصادية لتجاوز التحديات المتبقية. كما أكدوا على ضرورة إشراك الجامعة بشكل أكبر في عملية التحول الرقمي الوطني من خلال دعم البحث العلمي التطبيقي وتطوير شراكات مع المؤسسات الاقتصادية وتعزيز التكوين في مجالات الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي والأمن السيبراني.
واختُتمت الفعاليات بقراءة مجموعة من التوصيات العملية، أبرزها وضع إستراتيجية وطنية شاملة للتحول الرقمي تشمل جميع القطاعات، وتحسين البنية التحتية الرقمية وتوسيع شبكة الإنترنت عالية السرعة، وتأهيل الموارد البشرية المتخصصة في الميدان الرقمي، وتشجيع المؤسسات الناشئة عبر حوافز مالية وضريبية. كما دعا المشاركون إلى إرساء بيئة قانونية وتشريعية حديثة تُواكب التطور السريع في مجال الرقمنة وتضمن أمن المعاملات الإلكترونية.
وأجمع الخبراء في ختام الملتقى على أن الرقمنة أصبحت اليوم ركيزة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن الجزائر تسير بخطى ثابتة نحو بناء اقتصاد رقمي متكامل، قادر على المنافسة الإقليمية والدولية، إذا ما تم الحفاظ على هذا الزخم الإصلاحي ودعمه بإرادة سياسية ومواكبة أكاديمية دائمة.
