حديقة الأنقاض.. “الخردة” أعمال فنية في مراكش – ترند نيوز

حديقة الأنقاض.. “الخردة” أعمال فنية في مراكش – ترند نيوز

يقول الشاعر اليوناني ريتسوس: “كلّ ما رحل، نشبت جذوره هنا”، في توصيف لبقاء الزائل والمندثر حياً، باعتباره أفقاً جمالياً وسوسيولوجياً، متصلاً بالزمن والذاكرة والإنسان، الذي سيتعرّض بدوره للزوال، في دورة تجديد وتدوير الوجود. 

الأطلال ليست البقايا الصامتة الكئيبة، بل هي رموز للزمن وعمله في ما يتعلق بالولادة والموت، وهي رمز لهشاشة الفعل البشري مهما كان عظيماً، وتذكيراً بمشاعر الخوف والزوال كي يبدع ويستمر ويتجدّد. 

هذا تحديداً ما يفعله فن “ما بعد الحداثة”، اشتغالاً على الأنقاض والمتلاشيات، بمعنى تجديدها وبثّ الحياة فيها.

حديقة الأنقاض 

لا ينأى الفنان بنفسه عن التحوّلات الاجتماعية والسياسية، فالفن هو تحوّل في سيرورته أصلاً؛ وعليه، جاء مهرجان النحت في مراكش، معبّراً عن تحولات ما سُمّي حينذاك “الربيع العربي”.

 استخدم الفنانون المشاركون النحت والاشتغال على الحديد، المادة الصلبة القاسية والأشجار المُهملة، وسيلة لمحاكاة تطلع الإنسان العربي نحو عالم جديد، أي تطويع الحديد والصعوبات والتحديات. اشترك في مشروع النحت، فنانون مغاربة وأجانب بدعم محدود من بلدية “المنارة كليز”.

“الشرق” التقت في مراكش بعض الفنانين المشاركين، وهم عبد الحق ليوسي، أحمد حيزون، عبد الحفيظ تقورايت وعبد الهادي كيباري، الذين صنعوا من الأنقاض والمتلاشيات رموزاً ثقافية، وأثراً جمالياً وفلسفياً في علاقة ما بين الاضمحلال والبقاء.

 أعطى الفنانون المتلاشيات مسؤولية في الوجود حفاظاً على الطبيعة واستغلالاً لإمكانياتها. احتفوا بحيويتها ككيان مادي ذي شكل ووظيفة ورمز، فضلاً عن كونها رموزاً ثقافية جمالية، يستطيع الفن استثمارها.

يقول المؤلف ديلان ترنغ، المتخصّص في فلسفة جماليات تحليل الأنقاض والمتلاشيات، في كتابه “جماليات الاندثار: العدم والحنين وغياب العقل” ما مفاده: “توحي الأنقاض والمتلاشيات بالخراب والاضمحلال والانهيار التدريجي، لكنها في المقابل، تقودنا إلى إعادة فهم للمكان، وفهم للزمن جمالياً وفلسفياً”. 

يضيف: “يخلق الغياب- الزوال حالة من الحنين، حيث تتلاشى البنية الأصلية للأشياء أو الكائنات، فتظهر ملامح جديدة للتجربة البصرية والوجودية، استدامة لفكرة التقدّم والازدهار والبناء”.

ولنا أن نتصوّر الاشتغال الجمالي والفلسفي، في حديقة تعني الحياة والنماء، تتوسطها أعمال نحتية مادتها الحديد الجامد في العرف المجتمعي، والأنقاض الموحية بالكدر والتعسف البصري للعين والروح. يقول الفنان عبد الحفيظ تقورايت لـ”الشرق”:

“اشتغلت على فكرة الشجرة الميتة، تيمّناً بمقولة الشاعر الألماني غوته “يا صديقي، إن شجرة الحياة مخضرّة دائماً”، فجعلت الشجرة مُمددة مثل التابوت، ولكنها تبقى شجرة، “أزهرت شجرة الحديد”. عنوان مجموعة شعرية لعبد اللطيف اللعبي.

 يقول الفنان رينيه ماغريت عن الغليون المُتكرر في لوحاته “نعم، إنه غليون ولكن لا يُستعمل للتدخين”. 

المتلاشيات تجاوزاً للخراب

إن التجاوز وتحويل وظائف الأشياء السائدة، يتصل بالفن المعاصر؛ هكذا يتم ترحيل الخراب والانهيار نحو معانٍ تتجاوز البناء المادي، وتتعدّى السائد الراسخ في المجتمعات، عبر خلخلة اليقين في المواد وسيرورتها، الفن هو زعزعة اليقينيات، كما قال نيتشه “إن اليقينيات أشدّ وطأة”. 

ارتبط الحديد بالصدأ والذمّ، وهو في التجربة الفنية، يعبّر عن جمالية الغياب والحضور؛ صدأ متراكم، يتلاشى ويزول، ثم يعود إلى الظهور ثانية.

هذه الفكرة كانت موضع اشتغال الفلاسفة والنقّاد الجماليين؛ التلاشي يتناسب مع الإنسان بيولوجياً وعاطفياً، ضعف الجسد واضمحلال وظائفه، تلاشي الذكريات بفعل الشيخوخة، ذلك كله، في صميم فكرة الزمن. 

يقول الفنان عبد الحق ليوسي: “أشتغل على البلاستيك والخشب، ولكن  أفضّل الاشتغال على الحديد، بوصفه مادة صلبة وقاسية، معقّدة وباردة ومُتجهمة المظهر، لكن إذا تعمّقنا  فيه، نرى عالماً باطنياً شفافاً ذا أسرار وحميمية، يسمح للفنان بالاشتغال عليه، فيخرج من الرتابة والقسرية إلى الحيوية والعذوبة، بشرط امتلاك التجربة والخبرة والتعامل الجمالي”.

“جماليات الأنقاض”

 انحاز النقد الجمالي إلى المركزية العقلانية ضداً من الروحانيات والوجود العاطفي، فلم يبلور فرصة للتأمّل في الفناء البشري، معتمدة على تناول العدم مثلاً، من باب سيرورة التقدّم والحيوية، إذ لا شيء يموت أو يفنى، وتعتبر الكبوة حافزاً للسير وهدفاً للوصول.

يوضّح روبرت جينسبرغ  في كتابه “جماليات الأنقاض”، أن هناك “جودة وقيمة تعبيرية للأنقاض، تفتقر إليها الهياكل الحيوية الشاخصة. إن التدهور(الحك، التلاشي) يكشف عن الشكل الحقيقي الكامن في المبنى أو الهياكل، بمعنى يكشف عن الجوهر، عن القيمة المخبوءة”

يضيف: “إن علاقة جديدة ما بين الإنسان والمادة، سواء كانت من الحديد أم من  الردم، علاقة متحرّرة من النفعية والمصلحة، فالطلاء مثلاً ذو مصلحة نفعية، لإخفاء العيوب، ومنح الرونق إلى المادة خلافاً لجوهرها،  بينما ثمّة قيمة رمزية تعبيرية في المهمل والعابر”.  

يصف الفنان عبد الهادي كيباري المتلاشيات في حديثه معنا، “باعتبارها أشياء جمالية تعبيرية ذات قيمة رمزية، تهدف إلى إحياء تراث حضاري منصرم. لكل مادة طريقة اشتغال وتعامل، فالحديد مثلاً، يختلف عمّا إذا كان مسنداً للوحة، أم  يدخل في عمل تركيبي إنشائي، وعلى هذا النحو، يمنح الحديد ذاته متعة جمالية وغاية تعبيرية بحسب المراد منه”.

الأنقاض والفضاء العمومي

تستهدف الأعمال التركيبية الفضاء العمومي، مثل الساحات والطرق والحدائق، وتصبح قيمتها ثقافية هكذا، أكثر من وجودها في الصالات المغلقة والمتاحف. 

إذاً، الفضاء العمومي شرطاً لها، يساعدها على التحوّل من الزوال إلى قيمة ثقافية رمزية، بل يذهب الفنان أحمد حيزون بعيداً عن ذلك، قائلاً:

“يموت العمل الفني عندما يقتنيه شخص ما، يبقى محصوراً  لديه فحسب. بينما يجعله الفضاء العمومي حيّاً، قابلاً للتأويل، بمعنى يتحوّل إلى شأن ثقافي عام”.

 تضمّ حديقة “منارة كليز”، تركيبات نحتية على الخشب، ذات أشكال تعبيرية متنوعة، كما ينبغي الإشارة إلى أن الأعمال الفنية، تعاني من الإهمال وعدم الرعاية والعبث العشوائي بها، وانهيار بعض القواعد الحاملة لها، فضلاً عن عدم وجود الإنارة الليلية واللوحات الدالّة.

الأطلال والقيمة التعبيرية

انشغل العرب في تاريخهم الشعري والاجتماعي بالأطلال والوقوف عليها في سيرورة الاضمحلال والتلاشي والزوال، وهي تمثّل بقايا معمارية ذات أمجاد تاريخية، في علاقة مع الزمن والذاكرة والتراث، بينما الخراب فيها، يكسبها جمالاً غير تقليدي، عبر تحويل قيمته الواقعية إلى مشهدية معبّرة، حيث يغيّر التلاشي أو الهدم في المباني، علاقة الإنسان ببيئته إيجابياً، من ناحية جماليات المكان.

كاتب صحفي لدى موقع ترند نيوز اهتم بمتابعة ورصد اخر الاخبار العربية والعالمية