زاهر الغافري.. شاعر اختار قصائده وأوطانه ورحيله

زاهر الغافري.. شاعر اختار قصائده وأوطانه ورحيله

يُعدّ الشاعر العُماني زاهر الغافري، الذي رحل في مدينة مالمو السويدية في 21 سبتمبر، عن عمرٍ ناهز 67 عاماً، من الأصوات المهمّة في الشعر العربي الحديث، وهو رسّخ مع مواطنه الشاعر سيف الرحبي، الشعر العُماني محلياً وعربياً. 

إن تجربته وإن كانت شخصية جداً، وتشبهه وحدّه من دون سواه، لكن جمالها يكمن في تقاسمها وتشاركها مع الوجود، مع الشبابيك والصخور والبحر والقطارات والبلدان، ومع الفلسفة التي درسها.

تُرجمت قصائده إلى الإسبانية والإنجليزية والسويدية والفارسية والألمانية وغيرها.

عدالة الشعر

 ما حاول تحقيقه الشاعر زاهر الغافري، هو عدالة سلوكه النابعة من عدالة الشعر؛ بمعنى كان الشعر لديه وجوداً يعيشه، والحياة سلوكاً شعرياً جمالياً؛ فرفع شعره إلى مستوى حياته، التي رفعها هي الأخرى إلى مقام شعره، فتطابقاً، ثم تعاوناً معاً على تشكيل شخصية الغافري. 

كم حاول الشعراء تحقيق ذلك، منهم مَن فَشِل، والقليل نجح. اجتاز الغافري، هذا الاختبار الشعري والوجودي، عبر (12) مجموعة شعرية نثرية، منها الأولى “أظلاف في بئر”، “الصمت يأتي إلى الاعتراف”، “عزلة تفيض بالليل”، “أزهار في بئر”، “في كلّ أرض بئر تحلم بالحديقة” وغيرها. 

 شعرية مدعمّة بالترحّل الجمالي والمعرفي والمكاني، بوصف الترحّل هو وطن الشاعر فحسب، الذي لا جغرافيا منضبطة له، هناك مَن يُسمّي ذلك بـ المنفى؛ منفى الشمس، منفى أشجار المهد والولادة، ولكن لم يكن الترحّل ذا صلة بالمنفى لدى الغافري، بل هو اختيار إبداعي جمالي وجودي، ومحاولة لامتلاك شعرية ذات أقاليم شتى وتجارب حسّية متنوّعة، تخصّ بلدانه وأصدقائه وقريته “سرور” في عُمان، في تقاسم مع الوجود. 

أنانية الإبداع

شعراء كثر، يقبعون في ذواتهم فحسب، لا يسمحون بالدخول إليها؛ يكتبون أيضاً وفق هذا المعنى الأناني، لكنهم ليسوا أنانيين اجتماعياً، بل إبداعياً، بينما يمثّل الشعر للغافري “تجربة حياة وكتابة، الكتابة هنا بمفهوم الحضور والغياب، ومفهوم الزمن”. 

يقول الشاعر الراحل: “الزمن ليس غياباً ولا موتاً، إنما امتداد هائل وكبير، ليس بالنسبة للشعر، وإنما للإنسان على هذا الكوكب. على الصعيد الشعري الزمني الخاص، هو لحظة الكتابة الشعرية، عندما أجد أن العالم يكاد يختفي من بين يدي، هنا أشعر بالرعب، أكتشف نفسي أني شخص وحيد، رجل وحيد، أكتشف أن العزلة أحياناً مخيفة، لأنها مرتبطة بهذا المفهوم، وأشعر وأحسّ أن الألم، ألم الكتابة، ألم الشعر في منتهى القسوة. ولا أظن أن الشعر كائن اجتماعي، الشعر بحاجة إلى مساحة هائلة، لأن الشعر مرتبط بالمطلق، بالإله بالقدير، مرتبط بلحظة التجلي، لحظة الغياب”. 

عينا عُمان وبغداد 

كتب الشاعر العراقي محمد مظلوم على صفحته: “عينان كانتا لزاهر: عينُ عُمان، وعينُ بغداد، رأى بهما ما رأى وغاب. طوال سنواته الأخيرة كان يرفع كأسه محتفلاً بالحياة ومودّعاً لها في الآن ذاته. سلاماً لروحك”. 

كان أوّل نزوح له عام 1968 إلى بغداد للدراسة، حيث تعرّف عن كثب إلى مختبر الشعر العراقي الثري الذي سيرافقه دائماً، ثم سافر إلى المغرب، أوروبا وأميركا، حتى وفاته في مدينة مالمو في السويد.  

كان يقرّر سفره وشعره وأوطانه وحده، لم يكن تحت طائلة المساءلة، لبلد ما، ولا لنظام ولا لأحزاب ولشروط حياة؛ كان تحت طائلة ذاته وشعره فقط؛ وفاءً زاهراً دائماً للشعر وللحياة، وحتى عندما يستقبل ضيوفه بقبعته المعروفة وبرقصه المشهدي، كان وفاءً لهم وإخلاصاً للمستقبل، مثلما كتب الشاعر العراقي الراحل عقيل علي:

“لا تستنهض نفسك، لغير ما أنت مقبلٌ عليه، كُن رفيق عمرك المخلص، ولا تُسلّم صبواتك لغير شهواتك.. أسرع الحكمة واهنة والصباحات تتفاقم”. 

 لم يكن مستثمراً إلّا في الشعر والفرح والمسرات ومستثمراً في عذابه الشخصي أيضاً ، الذي لم يحاول أن يكشفه أو يصرّح عنه ، لئلا يكدّر الورد والطريق والحب. 

قصيدة النثر ضداً للمتعالي

 تبنّى صاحب “في كل أرض بئر تحلم بالحديقة” قصيدة النثر، الحاملة هي الأخرى الترحّل ما بين الأجناس الأدبية، اختياراً مصيرياً، في اتفاق صريح ما بين قصيدة النثر والترحل وضدّاً للمرجعيات والأوتاد الإبداعية؛ قصيدة حرّة خارجة على التنظيمات الشعرية الحزبية تمرّداً وجنوحاً. 

كتب الشاعر الراحل: “قصيدتي، ذات طابع حسّي، لأني لا أحاول أن أعيش في التجريد مع أني أحب التجريديين الكبار في الفن، كما عند موندريان وكاندنسكي. على القصيدة أن ترتطم بإيقاعات الكون وأغلبها إيقاعات حسية من الأفلاك، حتى وقع قطرات المطر على الأشجار والأرصفة. إن قصيدة النثر تختلف تماماً عن الشعر التقليدي أو الكلاسيكي، فهي لا تمتلك صوتاً متعالياً على الموجودات، بل تعيش مع الموجودات بصوتها هي الخاص بها”. 

يشرح الشاعر والناقد المغربي عبد اللطيف الوراري لـ”الشرق” ملامح شعر الغافري:

“كان واحداً من شعراء اللحظة العُمانية والعربية الراهنة، التي تواصلت منذ عقدين من الزمن، وكانت لحظة كثيفة، وملأى بأشكال الإخفاق والحُبْسة، وشاهدة على انسحاب لغات العصاب النفسي والأيديولوجي إلى الظلّ”.

يضيف: “أقام زاهر قصيدته على رُكْنية المكان لتشييد جمالياتها وهندسة متخيّلها البصري، الذي تَشرّبه من طفولته وتربيته العاطفية، ومن غنى الطبيعة في بلده عُمان. لكن حياته المبكرة التي عاشها جوّاباً في بلاد الشرق والغرب، وشعوره بالاغتراب وفقد التوازن وغياب الأحبة، ثم إقباله بنهم على المباهج الدنيوية كتعويض عن “اختلال” في معنى الحياة التي كان يبحث عنها، جعل هذه القصيدة تغتني بمواد فنية ثرية، شرط أفقها النصي لغةً وتخييلاً، وجعلها تتحوّل إلى ورشة عمل لشاعر كان مهموماً بتجربة الحياة الحسّية، وقياس درجة تأثّرها بما يجري حوله”.

يتابع الوراري: “لهذا تشعر بأنه كان يكتب عن عناصر وأشياء ومشهديات مختلفة ما زالت لم تستقرّ على حال أو لون خاصّ بها. عمل دائم التشكّل على نحو كان يُوطِّن في شعره لهجة القلق، وفي مجموع معانيه وتأملاته الذاتية والوجودية مسحة ميتافيزيقية تصطبغ بما في الحياة نفسها من تيه وضياع وأفول، بقدر ما تُحدث في صميم قارئيها أذىً ناعماً وشعوراً بالرهبة إذا نشط خزينُ تَمثُّلهم لها.” 

الشعراء يؤبّنون الغافري احتفالاً بالحياة

كتب الشعراء عن رحيل الغافري في صفحاتهم على مواقع التواصل، ليس كما يشيّعون الميت إلى مثواه الأخير، بل في إحساس عميق بأن الراحل استوفى حياته وشعره، الحياة وشعرها، بعد أن أوصل ذلك إلى الطاقة القصوى. هكذا، لم تنحُ كتاباتهم نحو المرثيات أو مراسيم الموت، إذ لا ندم  ولا مرثية للطاقة القصوى، ولا للبحر الأقصى وللأعالي القصّية، إنما يستحق العزاء والمواساة، المنجز الأدبي والإنساني ذو النصف، بينما الغافري قد استوفى تمامه وتمام الشعر.

  يقول كازنتراكي في “تقرير إلى غريكو”: أريد أن يأخذني الموت وأنا كومة عظام فحسب، بعدما أديت واجبي وعشت حياتي.

الشاعر العراقي ومدير معهد العالم العربي في باريس شوقي عبد الأمير كتب في رثاء الشاعر:

“هكذا إذن يا زاهر؛ في منعطف بارد على طريق شاحبة، هناك حيث ممالك الصقيع الشمالي، تترجّل ثملاً بعشق الشعر والحياة، لتورثنا نحن أحباءك، وحشةً لن يملؤها صوت سواك”..

أمّا الشاعرة اللبنانية ماري جليل، فقالت: “أظنها أرواح الشعراء تلك الأشجار، التي تحرس الغابة، فكلما سقط شاعر، نبتت قصيدة على هيئة شجرة”. 

الشاعر المغربي سعيد بن الهاني كتب: “كلّما فقدت الأرض شاعراً حقيقياً، تحزن زهور الأرض ويفتح كتاب ذاكرة الغياب، هذا هو جرح الوجود عندما يخرج جسد الشاعر إلى الّماء الرحيبة لشعب الموتى العظيم.. وداعاً زاهر الغافري.. الشعراء لا يموتون”.

من قصائد الشاعر الراحل، “أزهارٌ في بِئرْ ” 

ها هي الحقيقة تنزلُ بين يديكِ أخيراً:

ذاتَ يوم كان لأحلامكِ رائحة الأبدية

أنظرُ إليكِ كمنْ يستجدي حجارةً

عذراء.

أنا ظلّكِ الذي كان

مرآتكِ وقد عكست أزهارَكِ في بئْر.

أنا الغريبُ الآنَ، كم بكيتُ، على ثمارِ الليل

ومن أجلكِ، من أجل قدرٍ يُشْبِهُ جنّةً

مسمومةً، بتّ لا أقوى على النوم إلّا على حافة السكين.

كاتب صحفي لدى موقع ترند نيوز اهتم بمتابعة ورصد اخر الاخبار العربية والعالمية