“الإثنية”.. رهان أطراف نزاع السودان لحسم معارك الفاشر الاستراتيجية

“الإثنية”.. رهان أطراف نزاع السودان لحسم معارك الفاشر الاستراتيجية

دفعت قوات الدعم السريع، منذ أشهر، بموجات من عناصرها نحو الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، معززة بالعتاد والسلاح، أملاً في قطف “الثمرة الأخيرة” في هذا الإقليم، وبحثاً عن نصر استراتيجي مهم، لكن المعركة المستمرة في المدينة ومحيطها، لم تنته بكسبٍ سريع لأي من طرفي النزاع، سواء الدعم السريع أو الجيش السوداني والحركات المسلحة المتحالفة معه.

وبدلاً من تحقيق أي مكاسب، تحولت المنطقة المتنازع عليها إلى “ستالينجراد” أخرى، المدينة الروسية التي تعرضت لدمار كبير خلال الحرب العالمية الثانية، ونظر إليها كلاً من الزعيم النازي أدولف هتلر، والزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، على أنها “موقع مفصلي” تتوجب السيطرة عليه، أياً كانت الكلفة، حيث نظر إليها الأول على أنها كسر لإرادة السوفييت، بينما اعتبرها الثاني تعزيزاً لإرادة جيش بلاده، وبداية النهاية لتمدد “الرايخ الثالث” في كل أوروبا.

وبينما مثلت “ستالينجراد” أهمية استراتيجية، ليس للجانبين فحسب، إنما لحلفاء الدولتين، ولمكوناتهما الاجتماعية أيضاً، كانت أيضاً نقطة تحوّل مهمة في الحرب العالمية الثانية، وعلى نفس المنوال، مع اختلاف الفارق، تمثل معركة الفاشر الحالية، مركزاً لتقاطعات عدة، استراتيجية وإثنية، كما أنها تُشكّل “بؤرة ساخنة” لأطراف إقليمية ودولية، تراهن على هذا الطرف أو ذاك في عملية “إعادة ترسيم” جيوسياسية بمنطقة تزخر بتحولات عميقة و”هزّات ارتدادية” لاصطدامات قوى عالمية، في كامل منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، وصولاً إلى القرن الإفريقي، الذي يسخن، أكثر، تدريجياً في الوقت الراهن.

حسم غير مرجح

ويرى مراقبون أن سيطرة الدعم السريع على الفاشر، ستتيح لها كسر شوكة الحركات المسلّحة، وتجريد الجيش من حليفين مهمين، هما حاكم إقليم دارفور، مني أركو مناوي، ووزير المالية، جبريل إبراهيم، اللذين يقودان حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة، وسيصبح مستقبلهما السياسي “في كفِّ عفريت”، كما ستمكنها من تأمين خطوط الإمداد المفترضة من كل جبهات السودان الغربية وحدوده، والانفتاح، أكثر، على جبهات أخرى، شرقاً وشمالاً، خاصة مدينة الأبيض في شمال كردفان، وولايتي الشمالية ونهر النيل، ناهيك عن العاصمة السودانية ذاتها التي بالوسع تطويقها، فيما يعتبر آخرون أن انتصار الجيش في الفاشر، والقضاء على وحدات الدعم السريع في هذه المنطقة، “سيقصم ظهرها، ويشيع روح الهزيمة في صفوفها، وستكون الهزيمة الأكبر التي تتلقاها منذ بدء الحرب، بعد استعادة القوات المسلحة معظم أنحاء أم درمان في العاصمة السودانية.

وسيمّكن النصر، الجيش السوداني من توفير خطوط إمداد آمنة لمحاولة السيطرة، تدريجياً، على بقية ولايات دارفور، وولايات كردفان، وفك الاختناق على ولايات النيل الأبيض، الجزيرة وسنّار، وكذا قطع بعض خطوط إمداد الدعم السريع.

فيما سيمثل انتصار الحركات المسلحة، إلى جانب الجيش، تعزيزاً لوجودها السياسي ومستقبلها في توطيد أركانها، وتسديد ضربة قاضية لخصم عنيد ظل على الدوام يقاتلها وينزل بها الهزائم، إلى جانب نظام البشير، قبل أن تتبدل الأدوار، فتصبح الدعم السريع هي المتمردة في الخطاب الرسمي السوداني، والحركات التي كانت توصف بالمتمردة سابقا، هي الحليف الموثوق به بالنسبة للجيش.

اقرأ أيضاً
اقرأ أيضاً

معركة الفاشر.. قتال محتدم وتحذيرات دولية بشأن المدنيين

تحتدم المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في الفاشر، أبرز مدن دارفور، والتي يسكنها نحو 2 مليون نسمة، وذلك للسيطرة على آخر معاقل الجيش في الإقليم.

لكن سياسياً سودانياً خبيراً بشؤون دارفور، حذّر من أن سيطرة الدعم السريع أو الحركات المسلحة على الفاشر، بهزيمة الطرف الآخر، قد تجرّ لمواجهات ممنهجة على الخطوط الإثنية والعرقية. وقال هذا السياسي الذي فضّل عدم كشف اسمه، في تصريحات لـ”الشرق”، إن الانتصار ربما يستدعي “تاريخاً طويلاً من القتال والثارات، ويثير لواعج الانتقام لدى هذا الطرف أو ذاك، بين المكونات العربية والإفريقية في دارفور”، وهذا بدوره، قد يزلق قدم “الامتدادات الإثنية” لهذه المكونات في تشاد إلى الحلبة، ما سيفجّر الأوضاع في المنطقة بأسرها.

خطابات إثنية

واتسمت خطابات مؤيدي الأطراف المتنازعة في السودان، بسمت غارق في العصبيات الإثنية، في الأشهر الماضية، بالتزامن مع التصعيد العسكري في الفاشر، باستصحاب مرارات تاريخية، وميلٍ إلى تجريد الخصم من جذوره الوطنية، أو التقليل من شأن أصوله العرقية، ما عدّه البعض مؤشراً على إمكانية تصعيد العنف على أساس العرق، إذا انفتحت الاحتمالات بشأن معركة الفاشر، واستقطبت، فيما بعد، تحشيداً يقوم على الإثنية، الأمر الذي سيضاعف المخاطر على دارفور كلها، ويصعّب من التعايش السلمي بين سكانها، مرة أخرى، في الأفق المنظور، حسبما يحذر محللون.

لكن عضو المكتب الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع، عمران عبد الله حسن، قطع في حديث لـ”الشرق”، بأن محاولات تحويل معركة الفاشر إلى “حرب إثنية” فشل تماماً، مشيراً إلى أن قواته لن تعلن حكومة في مناطق سيطرتها إن سيطرت على الفاشر، وهو الأمر الذي رآه قريب الحدوث.

اقرأ أيضاًarticle image
اقرأ أيضاً

مجلس الأمن يطالب “الدعم السريع” بإنهاء “حصار” مدينة الفاشر السودانية

طالب مجلس الأمن الدولي برفع “الحصار”، الذي تفرضه قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، التي يسكنها مئات الآلاف، وتقع في ولاية شمال دارفور بالسودان

وعلى الرغم من أن الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، بقيت لأشهر بمنأى عن الصراع الدائر في السودان حالياً بين قوات الدعم السريع والجيش، في حين سيطرت قوات الدعم السريع على ولايات دارفور الأخرى، جنوباً وغرباً وشرقاً، إلا أن المدينة باتت في قلب القتال، بعد أن أعلنت حركات مسلّحة، أبرزها تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي، والعدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم، تخليها عن الحياد واصطفافها مع الجيش، كما يقول قادة الدعم السريع، الذين يردفون بأن هذه الحركات بدأت بالهجوم على مواقع تمركز قواتهم، في محيط الفاشر، فيما يقول قادة هذه الحركات إن الدعم السريع، ومنذ اندلاع الحرب، ظل يقتنص كل فرصة للسيطرة على الفاشر، وفشل في ذلك.

سيناريوهات محتملة

الخبير العسكري والاستراتيجي، اللواء المتقاعد، أمين إسماعيل، وهو ضابط سابق بالجيش السوداني، وعمل في المنطقة، في مطلع الألفية، حذر في حديثه لـ”الشرق”، من الآثار بالغة الخطورة لمعركة الفاشر، وتماساتها “الإثنية – العرقية” العابرة للحدود، مرجحاً سيناريوهات أربعة بشأن القتال الدائر، أولها انتصار الجيش، وهو، على حد وصفه، أمر طبيعي، بالنظر إلى انفتاحه الهجومي حالياً، وامتلاكه ميزة الطيران والمدرعات، رغم افتقاره للدروع، مشيراً إلى أن عدد قواته في الفاشر، مضافاً إليه نحو 30 إلى 50 ألفاً من الحركات المسلحة المساندة، ما يمنحه تفوقاً بشرياً على الدعم السريع. 

واعتبر الخبير العسكري السوداني، أنه لم يبق من “الكتلة الصلبة” لقوات الدعم السريع سوى 15 ألفاً من أصل 150 ألفاً، لذا لجأت للاستعانة بـ30 ألفاً ممن وصفهم بـ”المرتزقة” من الداخل والخارج.

السيناريو الثالث، برأي أمين إسماعيل خلال  تصريحاته لـ”الشرق”، يتمثل في استمرار الحرب، وهو يعني “انهيار الدولة اقتصادياً وتحوّلها لدولة فاشلة بامتياز”، وفق تعبيره، فيما الرابع فيتضمن “التدخل الدولي” باعتبار تأثيرات الحرب الحالية على منطقتي “الساحل والصحراء” و”القرن الإفريقي” وصراع النفوذ والموارد بين الدول الكبرى. 

من جانبه، وصف محمد الناير، المتحدث باسم حركة تحرير السودان بزعامة عبد الواحد النور، خلال تصريحات لـ”الشرق”، سيطرة قوات الدعم السريع المحتملة على الفاشر، بأنها ستعني “خروج كل دارفور عن سلطة حكومة بورتسودان”، لجهة أن الدعم السريع تسيطر على حواضر الولايات الخمس المكونة لدارفور باستثناء “جبل مرة” في وسط دارفور التي تسيطر عليها حركة تحرير السودان التي يتزعمها عبد الواحد النور.

ولفت إلى أن المعركة في الفاشر، التي أرهقت قوات الدعم السريع واضطرتها لجلب قوات إضافية على حساب جبهات أخرى، ستمكنها من توجيه قواتها إلى محاور أخرى “بروح معنوية عالية”، خاصة في كردفان والنيل الأبيض والخرطوم وغيرها، فيما خسارة الجيش ستجعله في وضع صعب للغاية، لأن سقوط الفاشر، بحسبه، يعني سقوط بابنوسة والأبيض والنهود وبقية وكافة ولايات كردفان الثلاثة. 

اقرأ أيضاًarticle image
اقرأ أيضاً

السودان.. معارك طاحنة في الفاشر وسقوط قائد بارز بـ”الدعم السريع”

تابع أخبار حرب السودان، الفاشر، قالت القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح ، إنها قتلت قائد عمليات قوات الدعم السريع بالفاشر الجنرال علي يعقوب جبريل

أما بالنسبة للحركات المتحالفة مع الجيش، والكلام للناير، فإن فقدانها للفاشر يعني خسارة مستقبلها السياسي برمته، “لأن حكومة بورتسودان تراهن عليها وتعتمد عليها في دحر قوات الدعم السريع” في المدينة، ومن ثم التحرك إلى بقية المناطق التي تسيطر عليها الدعم السريع.

وعلى حد وصف محمد الناير، فإن فلسفة الجيش والحكومة، تقوم على نقل الصراع إلى غرب السودان حيث حواضن الدعم السريع لفك الحصار عن أم درمان وسنار وعدم ترك فرصة لهذه القوات للتحرك إلى مناطق جديدة يسيطر عليها الجيش في ولايات شرق وشمال السودان والنيل الأزرق.

ورأى أن الفاشر بالنسبة للحركات المسلحة هي “مسألة حياة أو موت، لأنها تدرك فداحة الثمن الذي ستدفعه، ومن غير المستبعد أن يتنكر لهم الجيش، ويتخلى عن اتفاق جوبا للسلام، الذي منح تلك الحركات مناصب في الدولة وامتيازات طالما فشلت في تحقيقها”.

معادلة سياسية متباينة

من جانبه، قال المحلل السياسي حافظ كبير، إن الفاشر تعتبر المعقل الرئيسي للحركات المسلحة المتحالفة مع الجيش، مشيراً إلى أن فقدانها يعني “خروجها كلياً من المعادلة السياسية في إقليم دارفور والسودان، باعتبار أن مشاركتها الرئيسية في الحرب أتت من واقع وجودها الميداني في المدينة، ما يفسّر تحالفها مع الجيش في الفاشر”.

وأضاف كبير، خلال تصريحات لـ”الشرق”، أن ولاية شمال دارفور تمثل بعداً استراتيجياً مهماً بالنسبة لقوات الدعم السريع لانفتاحها على دولتين، هما تشاد وليبيا، وتعد “منفذاً للعلاقات الخارجية في حال تم تشكيل إدارات مدنية”، كما تعتمد عليها في التبادلات التجارية مع دول الجوار.

وبشأن الجيش، أردف كبير، أن فقدانها سيشكل واحدة من سلسلة خساراته في بقية ولايات دارفور، معتبراً أنه يرغب فقط في “الحفاظ على رمزية الدولة”.

أما قوات الدعم السريع التي لا يرجح كبير، خلال تصريحاته لـ”الشرق”، خسارتها المعركة، “فتكسب بشكل سريع بكلفة كبيرة، أو بمحاصرة المدينة وانتظار انتصار على المدى البعيد، لكن الهزيمة”، والقول لكبير، “فستمثل أملاً للجيش في تحقيق انتصارات في أماكن أخرى”، ولهذا فإن الفاشر “تمثل نقطة ضعف بالنسبة للدعم السريع لو تمكن الجيش من إلحاق الهزيمة به، حيث سيبدو أنه بالوسع وقف سلسلة انتصاراته ومقاومته وتحقيق النصر عليه”.

وسوم:

كاتب صحفي لدى موقع ترند نيوز اهتم بمتابعة ورصد اخر الاخبار العربية والعالمية