شدد الدكتور عمرو خالد، الداعية الإسلامي، على أهمية التخلص من الجمود وامتلاك شخصية منفتحة لديها القدرة على التكييف مع متغيرات الحياة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
وقال خالد في سابع حلقات برنامجه الرمضاني “نبي الإحسان”، إن العرب كانت تعيش بطريقة تقليدية جدًا، حيث كان العربي قبل الإسلام لا يعرف الهجرة خارج قبيلته، واصفًا المجتمع المكي قبل الإسلام بأنه كانت تحكمه الطائفية والعنصرية، إذ كان السادة وحدهم والعبيد وحدهم، والأغنياء وحدهم والفقراء وحدهم لا يمكن أن يجتمعوا سويًا، ودار الندوة لا يدخلها إلا السادة القرشيون فقط.
وأوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم أقدم على خطوات لكسر هذا الجمود داخل عقلية ونفوس الصحابة، وكانت أول خطوة تكييف التعامل مع كل أنواع البشر، وذاك من خلال جمع الصحابة على اختلاف أشكالهم وألوانهم وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وأشار خالد إلى أن ثاني خطوة علمها النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة هو التكيف مع الكون كله، وقد نزل القرآن لمزيد من انفتاح العقل ورؤية واسعة غير مغلقة، في وقت كان فيه العقل البشري يعيش حالة من النظر المجزأ في الوجود، يتأمل الشمس فيحسبها كيانًا قائمًا بذاته.
واستعرض خالد هذا الانفتاح الذي حققه القرآن في نفوس الصحابة، إذ حدث انفتاح وتكيف جديد مع الكون “وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا* وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا”، ثم تبعه “وَنَفْسٍ وَمَا سَواهَا”.. “وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى”، ثم تبعه “وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى”.. “وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ”.. ثم تبعه “إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ”.
وذكر خالد أنه مع ازدياد عدد المسلمين إلى 52 بإسلام حمزة وعمر في السنة الخامسة من البعثة، بدأت القبائل تعرف بالإسلام، وأصبح الكلام عن الإسلام ورسالة النبي حديث مكة، وهو ما زاد من غضب قريش واستفزازها، وبالتالي زاد التضييق والغل على المسلمين، مما قد يتسبب في استفزاز الشباب المسلم، الذي قد يرد على الإيذاء بإيذاء.
وأشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل على حماية مكة من صراع متوقع، وفي الوقت نفسه بادر إلى عدم الانحباس في مربع الخصم، وهذا كان من المبادئ الاستراتيجة البارزة طوال عهد النبوة، إذ لم يكن يقبل بأن يحصره عدوه في مسار محدود بل كان يفاجئ الخصم بمبادرات متتالية، تضع الطرف الآخر في حالة رد الفعل.
مرونة النبي
قال خالد إنه في الصراعات طويلة الأمد، لا بد من تغيير مستمر في قواعد اللعبة، لأنه إن بقيت القواعد كما هي دون تغيير في مرحلة من الصراع، ستصل كل الأمور إلى طريق مسدود؛ بلا غالب ولا مغلوب. لذا، لا بد من تغيير في القواعد، ولا بد من إدخال عنصر جديد للمعادلة يقلب الطاولة على الوضع الساكن، وكانت الهجرة إلى الحبشة شيئًا كهذا.
وأضاف أن ما سبق هو ما مهد لخطوة كبيرة يحوّل بها النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة إلى شخصيات تتمتع بقمة المرونة الذهنية والنفسية ليتميز على كل قريش، وفي الوقت ذاته ينزع فتيل الصدام.
إذ طلب من جميع الصحابة في دار الأرقم الهجرة إلى الحبشة، قائلاً: “لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنها أرض صدق، وإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه”، فخرج مجموعات من الصحابة، فكانت أول هجرة في الإسلام.
وفسّر خالد اختيار النبي هذا التوقيت للهجرة إلى الحبشة بأن الهدف منه كان تخفيض الضغط على الطرفين (قريش والمسلمين)، إذ كان نبي الرحمة والتسامح يريد أن يحمي الطرفين من الصدام، من خلال تقليل وجود المسلمين في مواجهة قريش بمكة، ليقلل فرص الصدام.
وأوضح خالد أن الصحابة لم يتحركوا للفكرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك لهم الاختيار، ولم يهاجر سوى 13 صحابيًا فقط.
وقال إنه في ذلك الوقت نزلت سورة الكهف التي تتضمن ثلاث قصص كلها حركة: أهل الكهف حركة من أجل الدين، موسى والخضر حركة من أجل العلم، ذو القرنين حركة من أجل الإصلاح في الأرض، فوصل عدد الصحابة المهاجرين إلى 83 رجلاً وامرأة.
وأرجع خالد هجرة المسلمين إلى الحبشة إلى سببين حددهما النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، وكان ملكها اسمه أصحمة بن أبجر ولقبه النجاشي، وأهم صفاته العدل وعدم الظلم.
وفسر في الوقت ذاته عدم هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة، لأنه لا يصح أن يهاجر هو بالذات إلى هناك، لأنها بلد أبرهة الذي حاول هدم الكعبة، فلا يصح أن يستعين ببلد حاربت بلده، وهو رمز للإسلام.
وعزا خالد اختيار توقيت الهجرة في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة إلى كونه أحد الأشهر الحرم.. لا قتال فيه.. وحتى لا يحدث صدام لو علمت قريش بهجرتهم، فيمنع كل سبب للصدام.
وقال إن المسلمين هاجروا على دفعتين؛ الأولى 13 صحابيًا، من بينهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، الزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف ومصعب بن عمير.
وأضاف خالد أنه بعدما وصل المسلمون إلى الحبشة بـ 50 يومًا سرت أنباء بأن قريش أسلمت فعادوا كلهم، لكنهم أول ما وصلوا إلى مكة اكتشفوا أنها شائعة، فمنهم من هرب ورجع ومنهم من قبضت عليه قريش، ومنهم من دخل في جوار أحد من قريش، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة ثانية إلى الحبشة.
ولفت خالد إلى أنه في الهجرة الثانية إلى الحبشة بلغ عدد المهاجرين 83 رجلاً و19 امرأة، من بينهم جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن جحش وأخوه عبيد الله بن جحش وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وأبو عبيدة بن الجراح.
وقال إن هذه الخطوة التي أقدم عليها النبي صلى الله عليه وسلم نجم عنها ثلاثة أشياء:
– هز قريش بشدة، لأنه كان بين الصحابة أغنياء وأبناء وأقارب لسادة قريش، وذلك من أجل ألا يدخلوا في صدام معهم.
– رسالة إلى النجاشي: أنا أرسلت إليك أناسًا ذوي وزن ثقيل.. هم الأثقل في قريش.
– حرك النبي عقول الصحابة للانفتاح والانطلاق بالخير في الحياة بلا انغلاق.
ولاحظ خالد أن أغلب من هاجروا من الشباب أصبحوا قادة الإسلام بعد 20 سنة من الهجرة إلى الحبشة، حيث كانت الهجرة تجربة ثرية في حياتهم فانطلقوا، وكثير منهم أصبحوا سفراء للنبي والخلفاء. مصعب صار سفيرًا للمدينة، أبو موسى سفير علي، عبد الله بن حذافة مبعوثا إلى ملك الروم، وأصبحوا قادة الفتوحات الإسلامية؛ ففتح سعد بن أبي وقاص بلاد فارس، وأبو عبيدة بن الجراح القدس.
وقال خالد إن الهجرة إلى الحبشة ولدّت إبداعات بين الصحابة، فعندما اتسعت الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان (من المهاجرين إلى الحبشة) قام بإنشاء أول أسطولٍ بحري، وأول الفتوحات البحرية كانت جزيرة قبرص عام 28هـ.
وعزا سماح قريش للمسلمين بالهجرة إلى الحبشة بأنها راهنت على أن المسلمين، مهما كان إيمانهم بمحمد وبرسالته وقرآنه قويًا، فإنهم لا يمكن أن يتركوا أرضهم ويذهبوا إلى بلد غريبة عنهم، لكنهم صاروا معدنًا جديدًا لا تعرفه قريش.
وذكر خالد أن المسلمين في الحبشة اشتغلوا في مهن وحرف أهل البلد، وتخصصوا في المصنوعات الجلدية اللي يحبها الأحباش، وانبهر النجاشي بسرعة وقوة دخولهم في المجتمع بلا مشاكل، وتأثر النجاشي وأسلم سرًا، ولما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، مع ذلك لم يحاول المسلمون أسلمة الحبشة وتحويل الأحباش من المسيحية إلى الإسلام.
" frameborder="0">
0 تعليق